كنعان - خاص
تحكي جدران غزة المدمرة قصصًا من التحدي والصمود، يرويها أهالي القطاع الذين لم تكسرهم الحرب ولم تثنِهم عن مواصلة الحياة والبقاء على أرضهم. فبين الركام المتناثر في كل مكان، تظهر ملامح الأمل في قلوبٍ أنهكتها الحرب، لكنها لا تزال تنبض بالحياة من جديد.
المواطنة "أم أحمد" ليست الوحيدة التي تمكنت، هي وزوجها وأبناؤها، من إصلاح ما يمكن إصلاحه من منزلها الذي دمره الاحتلال الإسرائيلي، قائلةً: "حين عدتُ وأسرتي بعد رحلة نزوحٍ قاسية استمرت لأشهر، لم أستطع التعرف على بيتنا وسط زحام البيوت المدمرة والمتكدسة على بعضها البعض".
وتابعت: "المشهد للوهلة الأولى يوحي لمن يشاهده أن مدينتنا ضربها زلزالٌ كبير، حوّل البيوت والحقول إلى كومة من الأحجار والأخشاب المتناثرة"، مؤكدة أنها مكثت أيامًا وليالي وهي تساعد زوجها وأبناءها في رفع الحجارة والزجاج والأخشاب، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من منزلها المدمر.
وأضافت: "من بقايا بيتنا بنينا غرفتين وحمامًا، وسقفناهما بأغصان أشجار الزيتون والنخيل، ومن طين بلادنا أقمنا البناء".
وأشارت إلى أن بيتها بات قبلة للكثير من أصحاب البيوت المدمرة الذين حضروا لاستنساخ التجربة. لكنها لم تُخفِ خشيتها من انهيار بيتها الجديد، لأنه مصنوع من الطين، لعدم توفر الإسمنت الضروري للبناء، معربةً عن أملها في أن تكلل جهود الدول الداعمة لوقف إطلاق النار بالنجاح، ليبدأ العمل سريعًا في إعادة الإعمار.
أينما ذهبتَ في قطاع غزة، سترى كيف تحوّلت البيوت والحقول، التي كانت تضج بالحياة، إلى أكوامٍ من الركام بفعل آلة الدمار الإسرائيلية. لكن ثمّة أملًا؛ فأهل غزة يرفضون الاستسلام للواقع الذي يحاول الاحتلال فرضه عبر التدمير الممنهج. عاد الكثير منهم لاستصلاح ما يمكن إصلاحه من بقايا بيوتهم المدمرة، والسكن بين جدرانها المليئة بالشقوق.
ها هو المواطن محمود سليمان يستصلح جزءًا من بيته المدمر، مستخدمًا الخشب وألواح "الزينكو" ليعيد الحياة لمنزله من جديد. ورغم خطورة العيش في هذه البيوت، بسبب احتمال انهيار السقف أو الجدران، إلا أن كثيرًا من الفلسطينيين باتوا مضطرين للعودة إليها، ريثما يتم إدخال الخيام والكرفانات والشروع في إعادة الإعمار.
وفي مكانٍ ليس بعيدًا عن المواطن سليمان، وقف الحاج بشير شراب "أبو رامي" (80 عامًا) أمام منزله المدمر، الذي كان مكونًا من خمسة طوابق، يتذكر بفخرٍ وحسرةٍ أيامه داخله، قائلًا: "بنيتُ منزلي حجرًا حجرًا، وشهد بين جدرانه أجمل الذكريات، أما الآن، فلم يبقَ منه إلا رمادٌ يذكرني بماضٍ جميلٍ اختفى تحت الركام المتناثر هنا وهناك".
وأشار "أبو رامي" إلى أنه لم يتمكن من استخراج إلا القليل من أغراضه من تحت الأنقاض، قائلًا: "نأمل أن يتم إدخال الجرافات الضخمة لرفع الركام، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من الملابس والأغراض التي نحتاجها لإكمال حياتنا".
وأضاف: "تمكنتُ من استصلاح غرفتين لم يصل إليهما الدمار، وها أنا وأبنائي وأسرهم نعيش موزعين بينهما، بالإضافة إلى عددٍ من الخيام، ريثما تتم إعادة الإعمار".
في زاوية استصلحتها العائلة بعد القصف، أقام أفراد أسرة "أبو رامي" فرنًا لصناعة الخبز، حيث يتجمعون حوله ويتبادلون أطراف الحديث، وسط أجواءٍ تُنسيهم مرارة ما حلَّ بمنزلهم من دمارٍ وخراب. هنا، تعجن النسوة الطحين، وهناك مَن يحضر الحطب، وآخر يوقد النار، في مشهدٍ يعكس تكاتف العائلة وصمودها.
أما المواطن مروان إبراهيم، فقرر وعائلته العيش فوق ركام منزلهم المدمر. ولحسن حظهم، كان جزءٌ من المنزل لا يزال سليمًا نسبيًا، وهو عبارة عن غرفةٍ مع مطبخٍ وحمام، من أصل بنايةٍ مكونةٍ من طابقين.
لأصحاب البيوت المدمرة قصصٌ تختلف في مضامينها، لكنها تتفق جميعها في أن الاحتلال هو العامل الأساسي فيها. فتدمير البيوت وتجريف الأراضي واقتلاع الأشجار، التي يعود عمر بعضها إلى مئات السنين، لا يُكلّف الاحتلال شيئًا، لكن إعادة البناء وزراعة الأراضي يكلف أصحابها الكثير.
ويتساءل المواطن محمود أبو معمر: "هل كان يجب على الاحتلال الإسرائيلي أن يهدم بيتنا وآلاف البيوت، ليصل في نهاية الأمر إلى صفقةٍ تقضي بخروج جنوده مقابل آلاف الأسرى الفلسطينيين؟".
وأضاف: "أنا واحدٌ من الذين عملوا ليل نهار ليبنوا منزلًا يحمي أسرهم. بلغت تكلفة منزلي، الذي يتكون من طابقين، 60 ألف دولار بين بناءٍ وتأثيث، وانتظرتُ سنوات حتى يتم – أو لا يتم – إعادة إعماره من جديد".
وتابع أبو معمر: "لم أنتظر طويلًا، وسأعمل على تجهيز مكانٍ يأوي أطفالي من ركام بيتي"، داعيًا المؤسسات المعنية والحكومات إلى تحمل مسؤولياتها في سرعة إعادة الإعمار.
أما المواطن محمود أبو نجيب، فقد بدأ بتأسيس منزله قبل خمسة أعوام، تدريجيًا، بسبب قلة إمكانياته. اضطر إلى أخذ قروضٍ وبيع مصاغ زوجته ليتمكن من تجهيز المنزل في عام 2023، لكنه دُمِّرَ بالكامل في بداية عام 2024، إثر الاجتياح البري الإسرائيلي لخان يونس.
يقول أبو نجيب: "لا زلتُ حتى الآن أسدد أحد القروض بقيمة 300 دولار شهريًا، يتم خصمها تلقائيًا من راتبي، من أصل 10 آلاف دولار مستحقة لصاحب مصنع مواد البناء"، مشيرًا إلى أن صاحب الدين لم يراعِ أن منزله قد أصبح أثرًا بعد عين، وأنه لم يتلقَّ أي مساعدةٍ من أي جهة.
حامدًا المولى عز وجل، قال: "الحمد لله أنني وجدتُ مكانًا يأويني وأسرتي في منزل والدي المدمر جزئيًا، الذي تعرض للقصف واستشهد فيه شقيقي".
خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، دمَّر الاحتلال الإسرائيلي حوالي 60,368 منزلًا تدميرًا كليًا، فيما بلغ عدد المنازل المدمرة جزئيًا نحو 300 ألف وحدة سكنية. وها هم أصحابها ينتظرون الفرج القريب.