icon-weather
الإذاعة البث المباشر
صفحة خاصة بوكالة كنعان الإخبارية لبث جميع مباريات كأس العالم قطر 2022 مباشرة مع التحليل الرياضي قبل المباريات وبعدها

مايكل كولينز واستقلال إيرلندا...

دروس في منهج اللاعنف للفلسطينيين!!

دروس في منهج اللاعنف للفلسطينيين!!

بقلم: د. أحمد يوسف

مايكل كولينز واستقلال إيرلندا...

دروس في منهج اللاعنف للفلسطينيين!!

بقلم: الدكتور أحمد يوسف

نظراً لحداثة الفلسطينيين في قطاع غزة بمنهج اللاعنف، يأتي تناولنا لبعض التجارب النضالية لشعوب وأمم أخرى سبقتنا في هذا المضمار. نعم؛ لم يتخلَ شعبٌ عن مقاومته المسلحة للعدوان؛ سواء أكان احتلالاً عابراً أم حالة استعمارية طالت سنواتها.. ولكن وهذه حقيقة تاريخية أن الشعوب تطور أساليب نضالها، وتستفيد من خبرات غيرها، برغم خصوصية كل تجربة نضالية، ولكن تبقى هناك قواسم مشتركة حتى في سياق الدروس والعبر.

في تشرين الثاني 2006 سافرت إلى لندن، ومن هناك إلى بلفاست للاطلاع على تجربة الإيرلنديين النضالية ضد الاحتلال البريطاني لجزيرتهم، كانت فرصة أن نشاهد البلاد التي طالما سمعنا عن مقاومة شعبها من أجل الحرية وتقرير المصير، والتقينا العديد من قيادات حزب "الشين فين" والجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA)، أمثال: جيري آدم، ومارتن ماكينس، وميتشل ماك، وجيري كيلي وأليكس ماسكي.. أمور كثيرة تشابهت بين تجربتنا الفلسطينية والتجربة الإيرلندية، وقد لمسنا ذلك خلال زيارتنا للعاصمة بلفاست، كما سعدنا بالحفاوة والتقدير خلال لقاءاتنا بأركان القيادة السياسية هناك.

تجولنا في العاصمة بلفاست، التي كانت يوماً ساحة للصراع المسلح والمواجهات العسكرية، وتحادثنا مع كل مضيف لنا، وكان من اللافت للنظر خلال تنقلاتنا داخل العديد من أحياء المدينة وجود الكثير من الجداريات، التي تحمل تعبيرات وصوراً تضامنية مع الشعب الفلسطيني.

في الحقيقة، كنت وأنا أتنقل بين بعض المؤسسات الحكومية ومقرات منظمات المجتمع المدني هناك، اتلفت يُمنة ويُسرة في الصور التي كانت معلقة في القاعات والمكاتب لرجالات تمثل رموزاً وطنية في التاريخ السياسي والنضالي لإيرلندا. للأسف، لم أعثر على الوجه الذي كنت انتظر مشاهدة لوحته معلقة في كل بيت، ألا وهو "مايكل كولنز". وعندما كنت أسأل عن السر وراء ذلك، كان البعض يهز رأسه بطريقة توحي لي غرابتها بأنه يقول لي: يبدو أنك لا تعرف الكثير عن تاريخ البلاد، وعن إيرلندا الشمالية على وجه الخصوص.

لم أكن في ذلك الوقت أعرف كل تفاصيل وخبايا التاريخ الإيرلندي، ولكن هذه الزيارة استكملت بها ما كان غائباً عني في السردية التاريخية لذلك البلد، الذي خضع للاحتلال لقرابة 800 عام، قبل أن يتحرر الجزء الأكبر منه وينال استقلاله باسم جمهورية إيرلندا في العشرينيات، فيما بقي الجزء الآخر من الجزيرة باسم "إيرلندا الشمالية" تابعاً للتاج البريطاني، ضمن توافقات سياسية يتعايش معها البروتستانت والكاثوليك، مع بعض التفاصيل التي سنتناولها في هذا العرض والتحليل.

إيرلندا: قصة وطن وشعب مقاوم

في لقاء حواري عقدناه في مؤسسة "بيت الحكمة" للدراسات والاستشارات، بعنوان "تاريخ الانقسامات السياسية في الدول الغربية: إيرلندا نموذجاً"، تحدث البروفيسور ديفيد ميتشل؛ جامعة ترنيتي- دبلن، وكذلك السيد أولفر ماكتيرنن؛ مدير مؤسسة (Forward Thinking)؛ أي التفكير للأمام، حيث أشار إلى أن جوهر الصراع في إيرلندا يتمحور حول السؤال التالي: لأي دولة ينتمي الجزء الشمالي من هذا البلد؛ لإيرلندا أم للمملكة المتحدة؟ حيث إنه من المعروف تاريخياً أن القوميين البريطانيين في إيرلندا الشمالية كانوا يريدونها أن تكون جزءاً من المملكة المتحدة، وقد أُطلق عليهم اسم "الاتحاديّين"؛ لأنهم أرادوا الحفاظ على وحدة إيرلندا الشمالية وبريطانيا، أما عن القوميين الإيرلنديين، فقد كان لهم رأياً آخر، حيث إن تطلعاتهم كانت تريد لهذا الجزء الشمالي من الجزيرة أن يكون جزءاً من جمهورية إيرلندية مستقلة وموحدة. هنا، يكمن أساس النزاع أو الصراع منذ أكثر من مائة عام، ولكنه اليوم ومنذ عدة عقود بدأ يأخذ منحىً سلمياً في الغالب.

لذلك، نحن الفلسطينيين المتابعين للمشهد النضالي هناك كنا نتساءل: من أين أتت هذه القوميات المتنافسة؟ ومتى بدأت جذور الصراع؟

كالعادة يسبق التاريخ السياسة ويطرح الرواية التي تفيد في قراءة المشهد بشكل علمي أفضل.. فمن وجهة نظر "جوستاف دي بيومونت"، وهو معلق سياسي واجتماعي فرنسي الجنسية، زار إيرلندا في 1830، وكتب ملخصاً الصراع بكلمات مفادها: إن إيرلندا، بحكم قدَرها القاتل، تقع قريبة من المحيط قرب إنجلترا، وبالتالي تبدو حالتها مرتبطة بنفس الروابط التي تربط توحيد العبيد بالأسياد؛ أي أنها وبسبب واقعها الجغرافي، محكوم عليها أن تكون تحت سيطرة جيرانها الأكبر والأغنى والأقوى من ناحية الشرق.. هذا إلى حدٍّ كبير هو تحليل الجمهوريين الإيرلنديين حينئذ والآن؛ الاستعمار البريطاني هو أساس مشكلة إيرلندا.

على أي حال، وبحسب الرواية التاريخية، فإن الاتحاديين المنحدرين إلى حدٍّ كبير من هؤلاء المستعمرين، لديهم وجهة نظر مختلفة، حيث يرون أن هناك ترابطاً طبيعياً بين إيرلندا وبريطانيا، مستدلين بالروابط التاريخية الوثيقة بين أسكوتلندا وإيرلندا الشمالية. ويوضح هؤلاء "الاتحاديون" بأن مشاركة بريطانيا في إيرلندا مفيد لكلا الطرفين على حدٍّ سواء.

ومن الجدير ذكره، أن هؤلاء الاتحاديين تعود أصولهم إلى المستوطنين البروتستانتيين، في حين كان الإيرلنديون من أصول رومانية كاثوليكية. وبالتالي فإن الاختلافات الدينية للمستوطنين ساعدتهم في تعزيز إحساسهم بالتميز كأناس منفصلين.

في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ الأمر يبدو كأن بريطانيا قد أعطت إيرلندا حكماً واستقلالاً ذاتياً، مما أثار قلق البروتستانت في الشمال ودفعهم لمعارضة ذلك بشدّة. حيث اعتقدوا أن الاستقلال الإيرلندي سيهدد حرياتهم السياسية والدينية كبروتستانتيين، وكذلك ازدهارهم الاقتصادي. ولذلك، شكل البروتستانت في الشمال حركة الاتحاد، وتوعدوا بمقاومة الحكم الذاتي لإيرلندا، وباستخدام القوة إن اضطروا.

في مطلع القرن العشرين، أصبحت توجد هناك حركتان وطنيتان في إيرلندا تستخدمان العنف على نحو متزايد، ولا تقبلان المساومة. ولمنع اندلاع حرب أهلية، قامت الحكومة البريطانية عام 1920 بتقسيم إيرلندا؛ 26 مقاطعة تمَّ منحها الاستقلال، وست مقاطعات في الشمال بقيت في المملكة المتحدة تحت اسم "إيرلندا الشمالية"، ولديها برلمان محلي خاص بها في بلفاست.

بالنسبة للبريطانيين، كان التقسيم أداة سياسية هدفت إلى تجنب الوقوع في حرب أهلية وتهدئة الموقف. ولكن كمقياس لحلِّ النزاع، يُثبت التقسيم بأنه غير مناسب ويخلد مشكلات للمستقبل، حيث إن طريقة رسم الحدود لإيرلندا، جعلت ثلث سكان إيرلندا الشمالية، والذين هم كاثوليك، لا يعترفون بالدولة الجديدة. كانت الطبقة الحاكمة البروتستانتية في إيرلندا الشمالية خائفة ومتشككة حيال ما رأوه منهم كأقلية غير مخلصة، وأما عن الكاثوليك في الشمال، فكانت تتم معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.. لم يكن هناك فعلياً قانون للتمييز العنصري، ولكن على الأرض، كان الكاثوليك محرومين من السكن والعمل، وكان وجودهم نادراً في القضاء والخدمات المدنية، وقوات الأمن التي كان يُنظر لها بأنها قمعية. من رحم هذه المظالم تولَّدت جذور العنف، الذي بدأ في أواخر الستينيات، والذي عُرف على مستوى الصراع بـاسم "المشاكل".. إن استهدف عناصر الجيش الجمهوري الإيرلندي للجيش البريطاني وقوات الشرطة المحلية كان الهدف منه هو الضغط لإجبار البريطانيين على الرحيل عن الجزيرة.

الجمعة العظيمة: بداية المشوار نحو السلام

يمكن فهم رؤية عملية السلام كناتج عن حسابات الواقع السياسي، حيث تحوّل العنف إلى نقطة أدت فيها المصالح الشخصية إلى دفع الأطراف للتنازل والتوصل إلى الحل. نعم؛ كان هناك مأزق عسكري، كون الجيش الجمهوري الإيرلندي فشل في إجبار البريطانيين على الخروج من إيرلندا، والبريطانيون من جانبهم كانوا يدركون بأن من الصعب إيقاف هجمات الجيش الإيرلندي أو هزيمته. لذلك، كانت هناك رغبة لإيجاد حلٍّ سياسي.

إن تجربة إيرلندا الشمالية مثالٌ جيد على نظرية "ويليام زارتمان"؛ أستاذ العلوم السياسية بجامعة جون هوبكنز، عن "النضج" في حلِّ النزاعات: وهي أن النزاع سيستمر حتى يشعر الطرفان بوجود ضرر مشترك يجبرهما على التنازل والحل.

على أي حال، برغم هذا الدليل، توجد أيضاً أسباب لأخذ عوامل أخرى على محمل الجد، وهو ما يدعوه "جون باول ليديراش"؛ أستاذ حل النزاعات في جامعة نوتردام الأمريكية، بـ"زراعة السلام"، وهي فكرة تقوم على تطور بطيء لرؤية وعلاقات جديدة، من خلال الحوار المتعدد المستوى والتفكير وإعادة التقييم، وذلك عبر التواصل بين الفاعلين السياسيين في المسارين الدبلوماسيين، والحوار خلف الكواليس.. كما ساعدت منتديات الحوار السياسية والمؤتمرات التي عقدها الاتحاد الأوروبي في خلق إحساس بالتعاطف ووجود هدف متبادل، بحيث تمنّت كل الأطراف أن تبقى الأجيال المستقبلية بعيدة عن العنف. في نهاية المطاف، بلغت الرغبة بالتعاون ذروتها في اتفاقية "الجمعة العظيمة".

كانت الاتفاقية عبارة عن 25 صفحة، لكن محتواها يمكن تلخيصه في نقطتين أساسيتين: الأولى؛ أن بقاء إيرلندا الشمالية ممكن في المملكة المتحدة طالما أن غالبية السكان في البلاد يريدون ذلك، والثانية؛ الأسس والضوابط لتحقيق مساواة أكبر وشمولية للمجتمع. لذلك، أنشأت الاتفاقية جمعية لتبادل السلطات الشامل في إيرلندا الشمالية ومتاحة لجميع الأحزاب، بما فيها الجماعات العسكرية. كما عملت على تنظيم قوات الشرطة، لجعلها أكثر تمثيلاً للسكان وأقل عسكرية، وشملت على حماية قوية لمبدأ المساواة وحقوق الإنسان، وأطلقت سراح السجناء شبه العسكريين، واعترفت بالعمل النقابي البريطاني وكذلك القومية الإيرلندية من ناحية الأهداف الشرعية والهويات على حدٍّ سواء. كما أنها اشتملت على مؤسسات انتقالية: حيث أنشأت المجلس الوزاري الجنوبي الشمالي لتعزيز التعاون بين شمال وجنوب إيرلندا، ومؤسسة بريطانية-إيرلندية لتعزيز التعاون بين جميع الأطراف في إيرلندا والمملكة المتحدة.

مايكل كولنز: الكاريزما والأسطورة النضالية

كانت المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذه الشخصية من خلال فيلم تمَّ عرضه في دور السينما الأمريكية عام 1996، حيث أثيرت في الصحافة ضجة كبيرة حول الفيلم من ناحية صدقيِّة الرواية وحجم المبالغة والتهويل فيها ونحو ذلك، وكون الجالية الإيرلندية كبيرة الحجم في أمريكا حوالي 40 مليوناً، فقد لقي الفيلم جدلاً وحضوراً واسعاً.

تعلمت وتفهمت وأدركت الكثير حول حقيقة الصراع الدائر في الجزيرة.. بدأت أقرأ وأتابع ما كان ينشر عن الجيش الجمهوري الإيرلندي، وكيف كان للمقاومة المسلحة والعمليات العسكرية النوعية من أثر في التعجيل بالحل السياسي في العشرينيات، والتوصل إلى تفاهمات قادت إلى الاستقلال في الجنوب. أما الشمال، وبعد توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة (Good Friday) في العام 1998، فهو بانتظار حسم معركة تقرير المصير - سلمياً - مع بريطانيا.

ونظراً لإعجابي بشخصية مايكل كولنز، طلبت من أحد الأصدقاء البريطانيين من أصول إيرلندية أن يحضر لي بعض الكتب والأفلام التي تزيد من منسوبنا المعرفي حول إيرلندا ونضال أهلها للاستقلال عن التاج البريطاني.. أهداني هذا الصديق الفيلم الدرامي التاريخي "الريح التي هزَّت السنبلة"، وكتاب (The Big Fellow)، الذي يتناول سيرة مايكل كولنز والثورة الإيرلندية.. من المعروف أنه في 21 يناير 1919 أعلنت الجمهورية الإيرلندية استقلالها، إلا أن حرب الاستقلال تلت ذلك، وكان كولينز مديراً للمنظمة والقائد العام للمتطوعين الإيرلنديين، ومدير المخابرات في الجيش الجمهوري الإيرلندي، وقد اكتسب شهرة واسعة في استراتيجية حرب العصابات، وتخطيط وتوجيه العديد من الهجمات الناجحة على القوات البريطانية، مثل اغتيال عملاء المخابرات البريطانية الرئيسة في تشرين الثاني 1920.

بعد وقف إطلاق النار في تموز 1921، تمَّ إرسال كولنز إلى لندن من قبل "إيمون دي فاليرا" للتفاوض على شروط السلام. أنشأت المعاهدة الأنجلو إيرلندية التي تمخض عنها الدولة الإيرلندية الحرة، لكنها اعتمدت على قَسم الولاء للتاج البريطاني، وهو شرط لم يستطع "دي فاليرا" وغيره من زعماء الجمهوريين التصالح معه. اعتبر كولنز المعاهدة بأنها تقدم "حُريةُ تحقيق الحرية"، واقتنعت الأغلبية بالتصديق على المعاهدة. تمَّ تشكيل حكومة مؤقتة تحت رئاسته في أوائل عام 1922، ولكن سرعان ما تعطلت بسبب الحرب الأهلية الإيرلندية، التي كان كولنز قائدًا للجيش الوطني فيها. وقد قتل بالرصاص في كمين نصبته له القوات المناهضة للمعاهدة في 22 آب 1922.

للأسف، جاء استهداف كولنز وقتله من رفقاء دربه في النضال، وذلك لاختلاف الرؤية حول الاستقلال، وهو الذي كان بينهم القائد و"الأخ الأكبر"، والمحارب القوي الذي قاد النضال المسلح وجاء بالاستقلال. نعم؛ لم يتحقق كل الحُلم، ولكن الجزء الأكبر من البلاد قد تحرر، وتُرك الجزء الآخر ببقعته الصغيرة وتعقيدات مشاكله لتقرير المصير.

في صفحات هذا التاريخ الكثير من المشابهات مع نضالنا الفلسطيني، وأيضاً الدروس والعبر التي يمكن تعلمها من خلال مرحلة ما بعد العمل العسكري، واعتماد فلسفة اللاعنف في استكمال ما يعزز الاستقرار والازدهار والأمن لمستقبل تلك البلاد، وهي فلسفة دخلت مع مسيرات العودة حيز التطبيق في ساحتنا الفلسطينية.

من الجدير ذكره، إن كولنز كان أسطورة نضالية بامتياز، وقد أنهك الجيش البريطاني وأجهزته الأمنية في الجزيرة.. ومع ذلك، فعندما لاحت فرصة الحل السياسي تعاطى معها، ونجح في توظيف ما كان بيديه من أوراق القوة لصالح تحقيق السلام، واختصار صفحات الصراع الدامي الذي بدا ألا نهاية مريحة له.

إن إلقاء نظرة على ذلك الصراع في محطاته النضالية الطويلة، سوف تأخذنا إلى القناعة التي توفرت لدينا - الآن - كفلسطينيين، ألا وهي أن المقاومة المسلحة وحدها لا تكفي، وخاصة في ظل اختلال موازين القوى، وقوة إمكانيات الاحتلال وقدراته العسكرية، حيث تحتاج العملية النضالية إلى أفكار وأساليب أخرى، وبحسب تعبير جيلي كيلي؛ السياسي المخضرم والقيادي السابق في الجيش الجمهوري، نحن خرجنا من المقاومة المسلحة إلى المقاومة السياسية، وبها سنصل حتماً إلى وحدة إيرلندا.

ختاماً.. المسيرات السلمية خطوة على طريق الاستقلال

من متابعة المشهد الإيرلندي، فإن حقائق النضال تقودنا إلى نتيجة مفادها: طالما أن هناك إرادة وطنية وحراكاً نضالياً شعبياً، وتفاعلاً عالمياً فإن الوصول للتحرير والاستقلال يصبح مسألة وقت.

نعم قاتل الايرلنديون بشراسة ودفعوا أثماناً عالية لنضالاتهم، ولكنهم وجدوا خلاصهم في اعتماد منهج الحوار وتخطي المعادلة الصفرية إما نحن أو هم، ولذلك قرروا استكمال تحرير بلادهم عبر سياسة الحق في تقرير المصير بالتفاهم مع بريطانيا، وعبر إجراء استفتاء يتقرر فيه مستقبل الجزء الشمالي من الجزيرة؛ أي إيرلندا الشمالية.

في المشهد الإيرلندي، هناك الكثير من الدروس والعبر التي يمكن أن نتعلم منها ونأخذ بها كفلسطينيين.. إذ ليس بالسلاح وحدة تحسم معارك الشعوب والأمم، وإن كانت المواجهات المسلحة مهمة ومفصلية أحياناً. لقد استفادت قيادة الشين فين والجيش الجمهوري الإيرلندي من تجربة جنوب أفريقيا واستعانوا من بعض فلسفاتهم في مناهضة سياسة الأبارتهايد، والتي بدأت تطبيقاتها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بهدف كسب الرأي العام العالمي لجانب مطالبهم المشروعة بوقف سياسات التمييز العنصري، ونجحوا بتلك الفلسفة اللاعنفية في تحريك ضمير الشعوب والضغط دولياً على مقاطعة نظام الأبارتهايد والحكومة القائمة عليه.

وضع الجيش الجمهوري سلاحه جانباً، وتفرغ للعمل السياسي، وما زالت تحركاته من خلال البرلمان تمنحه ما يطمح له ويتطلع إليه، حيث غدا الوقت جزءاً من العلاج والتوصل إلى حل يحقق للجميع الاستقرار والأمن والازدهار.

كفلسطينيين علينا أن نتعلم من تجارب الشعوب والأمم، وأن تكون لدينا دائماً بدائل وخيارات أخرى.

إن مسيرات العودة وكسر الحصار ستؤتي أُكلها إذا ما أحسنَّا الحفاظ على زخم شعبيتها ونمط سلميِّتها، وتمكنَّا من جعلها عملاً للكل الفلسطيني، وجنبناها الحسابات الحزبية والفصائلية، ووضع الجميع ثقله وإمكانياته بإخلاص لإنجاحها.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي وكالة كنعان الإخبارية.

دروس في منهج اللاعنف للفلسطينيين!!

الأربعاء 04 / يوليو / 2018

مايكل كولينز واستقلال إيرلندا...

دروس في منهج اللاعنف للفلسطينيين!!

بقلم: الدكتور أحمد يوسف

نظراً لحداثة الفلسطينيين في قطاع غزة بمنهج اللاعنف، يأتي تناولنا لبعض التجارب النضالية لشعوب وأمم أخرى سبقتنا في هذا المضمار. نعم؛ لم يتخلَ شعبٌ عن مقاومته المسلحة للعدوان؛ سواء أكان احتلالاً عابراً أم حالة استعمارية طالت سنواتها.. ولكن وهذه حقيقة تاريخية أن الشعوب تطور أساليب نضالها، وتستفيد من خبرات غيرها، برغم خصوصية كل تجربة نضالية، ولكن تبقى هناك قواسم مشتركة حتى في سياق الدروس والعبر.

في تشرين الثاني 2006 سافرت إلى لندن، ومن هناك إلى بلفاست للاطلاع على تجربة الإيرلنديين النضالية ضد الاحتلال البريطاني لجزيرتهم، كانت فرصة أن نشاهد البلاد التي طالما سمعنا عن مقاومة شعبها من أجل الحرية وتقرير المصير، والتقينا العديد من قيادات حزب "الشين فين" والجيش الجمهوري الإيرلندي (IRA)، أمثال: جيري آدم، ومارتن ماكينس، وميتشل ماك، وجيري كيلي وأليكس ماسكي.. أمور كثيرة تشابهت بين تجربتنا الفلسطينية والتجربة الإيرلندية، وقد لمسنا ذلك خلال زيارتنا للعاصمة بلفاست، كما سعدنا بالحفاوة والتقدير خلال لقاءاتنا بأركان القيادة السياسية هناك.

تجولنا في العاصمة بلفاست، التي كانت يوماً ساحة للصراع المسلح والمواجهات العسكرية، وتحادثنا مع كل مضيف لنا، وكان من اللافت للنظر خلال تنقلاتنا داخل العديد من أحياء المدينة وجود الكثير من الجداريات، التي تحمل تعبيرات وصوراً تضامنية مع الشعب الفلسطيني.

في الحقيقة، كنت وأنا أتنقل بين بعض المؤسسات الحكومية ومقرات منظمات المجتمع المدني هناك، اتلفت يُمنة ويُسرة في الصور التي كانت معلقة في القاعات والمكاتب لرجالات تمثل رموزاً وطنية في التاريخ السياسي والنضالي لإيرلندا. للأسف، لم أعثر على الوجه الذي كنت انتظر مشاهدة لوحته معلقة في كل بيت، ألا وهو "مايكل كولنز". وعندما كنت أسأل عن السر وراء ذلك، كان البعض يهز رأسه بطريقة توحي لي غرابتها بأنه يقول لي: يبدو أنك لا تعرف الكثير عن تاريخ البلاد، وعن إيرلندا الشمالية على وجه الخصوص.

لم أكن في ذلك الوقت أعرف كل تفاصيل وخبايا التاريخ الإيرلندي، ولكن هذه الزيارة استكملت بها ما كان غائباً عني في السردية التاريخية لذلك البلد، الذي خضع للاحتلال لقرابة 800 عام، قبل أن يتحرر الجزء الأكبر منه وينال استقلاله باسم جمهورية إيرلندا في العشرينيات، فيما بقي الجزء الآخر من الجزيرة باسم "إيرلندا الشمالية" تابعاً للتاج البريطاني، ضمن توافقات سياسية يتعايش معها البروتستانت والكاثوليك، مع بعض التفاصيل التي سنتناولها في هذا العرض والتحليل.

إيرلندا: قصة وطن وشعب مقاوم

في لقاء حواري عقدناه في مؤسسة "بيت الحكمة" للدراسات والاستشارات، بعنوان "تاريخ الانقسامات السياسية في الدول الغربية: إيرلندا نموذجاً"، تحدث البروفيسور ديفيد ميتشل؛ جامعة ترنيتي- دبلن، وكذلك السيد أولفر ماكتيرنن؛ مدير مؤسسة (Forward Thinking)؛ أي التفكير للأمام، حيث أشار إلى أن جوهر الصراع في إيرلندا يتمحور حول السؤال التالي: لأي دولة ينتمي الجزء الشمالي من هذا البلد؛ لإيرلندا أم للمملكة المتحدة؟ حيث إنه من المعروف تاريخياً أن القوميين البريطانيين في إيرلندا الشمالية كانوا يريدونها أن تكون جزءاً من المملكة المتحدة، وقد أُطلق عليهم اسم "الاتحاديّين"؛ لأنهم أرادوا الحفاظ على وحدة إيرلندا الشمالية وبريطانيا، أما عن القوميين الإيرلنديين، فقد كان لهم رأياً آخر، حيث إن تطلعاتهم كانت تريد لهذا الجزء الشمالي من الجزيرة أن يكون جزءاً من جمهورية إيرلندية مستقلة وموحدة. هنا، يكمن أساس النزاع أو الصراع منذ أكثر من مائة عام، ولكنه اليوم ومنذ عدة عقود بدأ يأخذ منحىً سلمياً في الغالب.

لذلك، نحن الفلسطينيين المتابعين للمشهد النضالي هناك كنا نتساءل: من أين أتت هذه القوميات المتنافسة؟ ومتى بدأت جذور الصراع؟

كالعادة يسبق التاريخ السياسة ويطرح الرواية التي تفيد في قراءة المشهد بشكل علمي أفضل.. فمن وجهة نظر "جوستاف دي بيومونت"، وهو معلق سياسي واجتماعي فرنسي الجنسية، زار إيرلندا في 1830، وكتب ملخصاً الصراع بكلمات مفادها: إن إيرلندا، بحكم قدَرها القاتل، تقع قريبة من المحيط قرب إنجلترا، وبالتالي تبدو حالتها مرتبطة بنفس الروابط التي تربط توحيد العبيد بالأسياد؛ أي أنها وبسبب واقعها الجغرافي، محكوم عليها أن تكون تحت سيطرة جيرانها الأكبر والأغنى والأقوى من ناحية الشرق.. هذا إلى حدٍّ كبير هو تحليل الجمهوريين الإيرلنديين حينئذ والآن؛ الاستعمار البريطاني هو أساس مشكلة إيرلندا.

على أي حال، وبحسب الرواية التاريخية، فإن الاتحاديين المنحدرين إلى حدٍّ كبير من هؤلاء المستعمرين، لديهم وجهة نظر مختلفة، حيث يرون أن هناك ترابطاً طبيعياً بين إيرلندا وبريطانيا، مستدلين بالروابط التاريخية الوثيقة بين أسكوتلندا وإيرلندا الشمالية. ويوضح هؤلاء "الاتحاديون" بأن مشاركة بريطانيا في إيرلندا مفيد لكلا الطرفين على حدٍّ سواء.

ومن الجدير ذكره، أن هؤلاء الاتحاديين تعود أصولهم إلى المستوطنين البروتستانتيين، في حين كان الإيرلنديون من أصول رومانية كاثوليكية. وبالتالي فإن الاختلافات الدينية للمستوطنين ساعدتهم في تعزيز إحساسهم بالتميز كأناس منفصلين.

في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ الأمر يبدو كأن بريطانيا قد أعطت إيرلندا حكماً واستقلالاً ذاتياً، مما أثار قلق البروتستانت في الشمال ودفعهم لمعارضة ذلك بشدّة. حيث اعتقدوا أن الاستقلال الإيرلندي سيهدد حرياتهم السياسية والدينية كبروتستانتيين، وكذلك ازدهارهم الاقتصادي. ولذلك، شكل البروتستانت في الشمال حركة الاتحاد، وتوعدوا بمقاومة الحكم الذاتي لإيرلندا، وباستخدام القوة إن اضطروا.

في مطلع القرن العشرين، أصبحت توجد هناك حركتان وطنيتان في إيرلندا تستخدمان العنف على نحو متزايد، ولا تقبلان المساومة. ولمنع اندلاع حرب أهلية، قامت الحكومة البريطانية عام 1920 بتقسيم إيرلندا؛ 26 مقاطعة تمَّ منحها الاستقلال، وست مقاطعات في الشمال بقيت في المملكة المتحدة تحت اسم "إيرلندا الشمالية"، ولديها برلمان محلي خاص بها في بلفاست.

بالنسبة للبريطانيين، كان التقسيم أداة سياسية هدفت إلى تجنب الوقوع في حرب أهلية وتهدئة الموقف. ولكن كمقياس لحلِّ النزاع، يُثبت التقسيم بأنه غير مناسب ويخلد مشكلات للمستقبل، حيث إن طريقة رسم الحدود لإيرلندا، جعلت ثلث سكان إيرلندا الشمالية، والذين هم كاثوليك، لا يعترفون بالدولة الجديدة. كانت الطبقة الحاكمة البروتستانتية في إيرلندا الشمالية خائفة ومتشككة حيال ما رأوه منهم كأقلية غير مخلصة، وأما عن الكاثوليك في الشمال، فكانت تتم معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية.. لم يكن هناك فعلياً قانون للتمييز العنصري، ولكن على الأرض، كان الكاثوليك محرومين من السكن والعمل، وكان وجودهم نادراً في القضاء والخدمات المدنية، وقوات الأمن التي كان يُنظر لها بأنها قمعية. من رحم هذه المظالم تولَّدت جذور العنف، الذي بدأ في أواخر الستينيات، والذي عُرف على مستوى الصراع بـاسم "المشاكل".. إن استهدف عناصر الجيش الجمهوري الإيرلندي للجيش البريطاني وقوات الشرطة المحلية كان الهدف منه هو الضغط لإجبار البريطانيين على الرحيل عن الجزيرة.

الجمعة العظيمة: بداية المشوار نحو السلام

يمكن فهم رؤية عملية السلام كناتج عن حسابات الواقع السياسي، حيث تحوّل العنف إلى نقطة أدت فيها المصالح الشخصية إلى دفع الأطراف للتنازل والتوصل إلى الحل. نعم؛ كان هناك مأزق عسكري، كون الجيش الجمهوري الإيرلندي فشل في إجبار البريطانيين على الخروج من إيرلندا، والبريطانيون من جانبهم كانوا يدركون بأن من الصعب إيقاف هجمات الجيش الإيرلندي أو هزيمته. لذلك، كانت هناك رغبة لإيجاد حلٍّ سياسي.

إن تجربة إيرلندا الشمالية مثالٌ جيد على نظرية "ويليام زارتمان"؛ أستاذ العلوم السياسية بجامعة جون هوبكنز، عن "النضج" في حلِّ النزاعات: وهي أن النزاع سيستمر حتى يشعر الطرفان بوجود ضرر مشترك يجبرهما على التنازل والحل.

على أي حال، برغم هذا الدليل، توجد أيضاً أسباب لأخذ عوامل أخرى على محمل الجد، وهو ما يدعوه "جون باول ليديراش"؛ أستاذ حل النزاعات في جامعة نوتردام الأمريكية، بـ"زراعة السلام"، وهي فكرة تقوم على تطور بطيء لرؤية وعلاقات جديدة، من خلال الحوار المتعدد المستوى والتفكير وإعادة التقييم، وذلك عبر التواصل بين الفاعلين السياسيين في المسارين الدبلوماسيين، والحوار خلف الكواليس.. كما ساعدت منتديات الحوار السياسية والمؤتمرات التي عقدها الاتحاد الأوروبي في خلق إحساس بالتعاطف ووجود هدف متبادل، بحيث تمنّت كل الأطراف أن تبقى الأجيال المستقبلية بعيدة عن العنف. في نهاية المطاف، بلغت الرغبة بالتعاون ذروتها في اتفاقية "الجمعة العظيمة".

كانت الاتفاقية عبارة عن 25 صفحة، لكن محتواها يمكن تلخيصه في نقطتين أساسيتين: الأولى؛ أن بقاء إيرلندا الشمالية ممكن في المملكة المتحدة طالما أن غالبية السكان في البلاد يريدون ذلك، والثانية؛ الأسس والضوابط لتحقيق مساواة أكبر وشمولية للمجتمع. لذلك، أنشأت الاتفاقية جمعية لتبادل السلطات الشامل في إيرلندا الشمالية ومتاحة لجميع الأحزاب، بما فيها الجماعات العسكرية. كما عملت على تنظيم قوات الشرطة، لجعلها أكثر تمثيلاً للسكان وأقل عسكرية، وشملت على حماية قوية لمبدأ المساواة وحقوق الإنسان، وأطلقت سراح السجناء شبه العسكريين، واعترفت بالعمل النقابي البريطاني وكذلك القومية الإيرلندية من ناحية الأهداف الشرعية والهويات على حدٍّ سواء. كما أنها اشتملت على مؤسسات انتقالية: حيث أنشأت المجلس الوزاري الجنوبي الشمالي لتعزيز التعاون بين شمال وجنوب إيرلندا، ومؤسسة بريطانية-إيرلندية لتعزيز التعاون بين جميع الأطراف في إيرلندا والمملكة المتحدة.

مايكل كولنز: الكاريزما والأسطورة النضالية

كانت المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذه الشخصية من خلال فيلم تمَّ عرضه في دور السينما الأمريكية عام 1996، حيث أثيرت في الصحافة ضجة كبيرة حول الفيلم من ناحية صدقيِّة الرواية وحجم المبالغة والتهويل فيها ونحو ذلك، وكون الجالية الإيرلندية كبيرة الحجم في أمريكا حوالي 40 مليوناً، فقد لقي الفيلم جدلاً وحضوراً واسعاً.

تعلمت وتفهمت وأدركت الكثير حول حقيقة الصراع الدائر في الجزيرة.. بدأت أقرأ وأتابع ما كان ينشر عن الجيش الجمهوري الإيرلندي، وكيف كان للمقاومة المسلحة والعمليات العسكرية النوعية من أثر في التعجيل بالحل السياسي في العشرينيات، والتوصل إلى تفاهمات قادت إلى الاستقلال في الجنوب. أما الشمال، وبعد توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة (Good Friday) في العام 1998، فهو بانتظار حسم معركة تقرير المصير - سلمياً - مع بريطانيا.

ونظراً لإعجابي بشخصية مايكل كولنز، طلبت من أحد الأصدقاء البريطانيين من أصول إيرلندية أن يحضر لي بعض الكتب والأفلام التي تزيد من منسوبنا المعرفي حول إيرلندا ونضال أهلها للاستقلال عن التاج البريطاني.. أهداني هذا الصديق الفيلم الدرامي التاريخي "الريح التي هزَّت السنبلة"، وكتاب (The Big Fellow)، الذي يتناول سيرة مايكل كولنز والثورة الإيرلندية.. من المعروف أنه في 21 يناير 1919 أعلنت الجمهورية الإيرلندية استقلالها، إلا أن حرب الاستقلال تلت ذلك، وكان كولينز مديراً للمنظمة والقائد العام للمتطوعين الإيرلنديين، ومدير المخابرات في الجيش الجمهوري الإيرلندي، وقد اكتسب شهرة واسعة في استراتيجية حرب العصابات، وتخطيط وتوجيه العديد من الهجمات الناجحة على القوات البريطانية، مثل اغتيال عملاء المخابرات البريطانية الرئيسة في تشرين الثاني 1920.

بعد وقف إطلاق النار في تموز 1921، تمَّ إرسال كولنز إلى لندن من قبل "إيمون دي فاليرا" للتفاوض على شروط السلام. أنشأت المعاهدة الأنجلو إيرلندية التي تمخض عنها الدولة الإيرلندية الحرة، لكنها اعتمدت على قَسم الولاء للتاج البريطاني، وهو شرط لم يستطع "دي فاليرا" وغيره من زعماء الجمهوريين التصالح معه. اعتبر كولنز المعاهدة بأنها تقدم "حُريةُ تحقيق الحرية"، واقتنعت الأغلبية بالتصديق على المعاهدة. تمَّ تشكيل حكومة مؤقتة تحت رئاسته في أوائل عام 1922، ولكن سرعان ما تعطلت بسبب الحرب الأهلية الإيرلندية، التي كان كولنز قائدًا للجيش الوطني فيها. وقد قتل بالرصاص في كمين نصبته له القوات المناهضة للمعاهدة في 22 آب 1922.

للأسف، جاء استهداف كولنز وقتله من رفقاء دربه في النضال، وذلك لاختلاف الرؤية حول الاستقلال، وهو الذي كان بينهم القائد و"الأخ الأكبر"، والمحارب القوي الذي قاد النضال المسلح وجاء بالاستقلال. نعم؛ لم يتحقق كل الحُلم، ولكن الجزء الأكبر من البلاد قد تحرر، وتُرك الجزء الآخر ببقعته الصغيرة وتعقيدات مشاكله لتقرير المصير.

في صفحات هذا التاريخ الكثير من المشابهات مع نضالنا الفلسطيني، وأيضاً الدروس والعبر التي يمكن تعلمها من خلال مرحلة ما بعد العمل العسكري، واعتماد فلسفة اللاعنف في استكمال ما يعزز الاستقرار والازدهار والأمن لمستقبل تلك البلاد، وهي فلسفة دخلت مع مسيرات العودة حيز التطبيق في ساحتنا الفلسطينية.

من الجدير ذكره، إن كولنز كان أسطورة نضالية بامتياز، وقد أنهك الجيش البريطاني وأجهزته الأمنية في الجزيرة.. ومع ذلك، فعندما لاحت فرصة الحل السياسي تعاطى معها، ونجح في توظيف ما كان بيديه من أوراق القوة لصالح تحقيق السلام، واختصار صفحات الصراع الدامي الذي بدا ألا نهاية مريحة له.

إن إلقاء نظرة على ذلك الصراع في محطاته النضالية الطويلة، سوف تأخذنا إلى القناعة التي توفرت لدينا - الآن - كفلسطينيين، ألا وهي أن المقاومة المسلحة وحدها لا تكفي، وخاصة في ظل اختلال موازين القوى، وقوة إمكانيات الاحتلال وقدراته العسكرية، حيث تحتاج العملية النضالية إلى أفكار وأساليب أخرى، وبحسب تعبير جيلي كيلي؛ السياسي المخضرم والقيادي السابق في الجيش الجمهوري، نحن خرجنا من المقاومة المسلحة إلى المقاومة السياسية، وبها سنصل حتماً إلى وحدة إيرلندا.

ختاماً.. المسيرات السلمية خطوة على طريق الاستقلال

من متابعة المشهد الإيرلندي، فإن حقائق النضال تقودنا إلى نتيجة مفادها: طالما أن هناك إرادة وطنية وحراكاً نضالياً شعبياً، وتفاعلاً عالمياً فإن الوصول للتحرير والاستقلال يصبح مسألة وقت.

نعم قاتل الايرلنديون بشراسة ودفعوا أثماناً عالية لنضالاتهم، ولكنهم وجدوا خلاصهم في اعتماد منهج الحوار وتخطي المعادلة الصفرية إما نحن أو هم، ولذلك قرروا استكمال تحرير بلادهم عبر سياسة الحق في تقرير المصير بالتفاهم مع بريطانيا، وعبر إجراء استفتاء يتقرر فيه مستقبل الجزء الشمالي من الجزيرة؛ أي إيرلندا الشمالية.

في المشهد الإيرلندي، هناك الكثير من الدروس والعبر التي يمكن أن نتعلم منها ونأخذ بها كفلسطينيين.. إذ ليس بالسلاح وحدة تحسم معارك الشعوب والأمم، وإن كانت المواجهات المسلحة مهمة ومفصلية أحياناً. لقد استفادت قيادة الشين فين والجيش الجمهوري الإيرلندي من تجربة جنوب أفريقيا واستعانوا من بعض فلسفاتهم في مناهضة سياسة الأبارتهايد، والتي بدأت تطبيقاتها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، بهدف كسب الرأي العام العالمي لجانب مطالبهم المشروعة بوقف سياسات التمييز العنصري، ونجحوا بتلك الفلسفة اللاعنفية في تحريك ضمير الشعوب والضغط دولياً على مقاطعة نظام الأبارتهايد والحكومة القائمة عليه.

وضع الجيش الجمهوري سلاحه جانباً، وتفرغ للعمل السياسي، وما زالت تحركاته من خلال البرلمان تمنحه ما يطمح له ويتطلع إليه، حيث غدا الوقت جزءاً من العلاج والتوصل إلى حل يحقق للجميع الاستقرار والأمن والازدهار.

كفلسطينيين علينا أن نتعلم من تجارب الشعوب والأمم، وأن تكون لدينا دائماً بدائل وخيارات أخرى.

إن مسيرات العودة وكسر الحصار ستؤتي أُكلها إذا ما أحسنَّا الحفاظ على زخم شعبيتها ونمط سلميِّتها، وتمكنَّا من جعلها عملاً للكل الفلسطيني، وجنبناها الحسابات الحزبية والفصائلية، ووضع الجميع ثقله وإمكانياته بإخلاص لإنجاحها.